

في وسط أساطير الإغريق، يظهر اسم غريب وغير مألوف: تالوس. لم يكن إنسانًا ولا إلهًا، بل كان مخلوقًا من البرونز، ضخمًا، يجري في عروقه سائل سماوي يُسمى الإيخور، وهو دم الآلهة. تقول الأسطورة إن هيفيستوس، إله الحدادة والنار، صنعه بيديه لهدفٍ حراسي، ثم أهداه لزيوس الذي أرسله بدوره إلى ملك كريت.
أما تالوس، فلم يكن مجرد تمثال متحرك، بل كان نظامًا حراسيًا بامتياز. ثلاث مرات في اليوم، كان يركض في دائرة حول جزيرة كريت، ويقذف الصخور نحو أي سفينة تجرؤ على الاقتراب. لم يكن ينام أو يتعب، وكأن الزمن لا يمسه. لكن مهمته لم تكن مجرد قوة وسرعة، فقد كان يحمل معه لوحًا معدنيًا منقوشًا عليه قوانين مقدسة، يمر به على القرى ليُذكّر الناس بأوامر الآلهة، وكأن العدالة تسير على قدمين معدنيتين.
لكن الزمن لا يرحم أحدًا، حتى الآلات. شيئًا فشيئًا، بدأ تالوس يظهر علامات غريبة؛ كأنه يُفكر، يتأمل، يحلم بالخلود، ويتساءل عن مكانه بين الآلهة والبشر. وكانت هذه بداية نهايته.
حين وصل جايسون ورفاقه الأرجوناوتس إلى جزيرة كريت، وجدوا أمامهم هذا الحارس الأسطوري. لكن الساحرة ميديا لم تواجهه بالسيف، بل بالعقل.
اقتربت منه وتحدثت إليه بلطف ودهاء، وأقنعته بأنه يستطيع أن يصبح خالدًا إن هو فقط نزع البرغي من كاحله.
لم يكن يعلم أن هذا البرغي كان يغلق فتحة تجري فيها الإيخور. وما إن أزاله، حتى نزف وسقط، منهياً أسطورته.
وهكذا انتهت قصة أول روبوت عرفه الخيال البشري، لا بمعركة بل بخدعة.
عبرة من فريق آي هاوس
وبهذا ايضاً لم تكن نهاية تالوس مجرد سقوط آلة، بل بداية سؤالٍ عميق.
لقد صُنع كآلة بدون مشاعر، لكنه بدأ، يفكر، يشك، ويريد أن يعيش للأبد.
كان الذكاء قوته، لكنه أيضًا ما جعله عرضة للخداع.
هذه ليست مجرد أسطورة قديمة، بل مرآة لرغبتنا الحديثة في بناء ذكاء يشبهنا.
من قلب الأسطورة ينبثق تحذير أخلاقي: عندما نبني ذكاءً اصطناعيًا، فإننا لا نخلق أدوات فحسب، بل نزرع بذور وعيٍ قد يتجاوزنا.
علينا أن نتذكر دائمًا أن جذور هذا السعي موجودة في أدمغتنا، في فضولنا، وفي هشاشتنا أيضًا.
أخلاقيات الذكاء ليست رفاهية، بل ضرورة.
فكما سقط تالوس بسبب رغبته في أن يصبح أكثر من آلة، قد نسقط نحن إن نسينا أن التقنية لا تنفصل عن القيم التي نبرمجها بها.