كُلّنا سمعنا بالإنترنت الفضائيّ والضّجة الكبيرة التي أحدثها -وما زال- العبقري “إيلون ماسك” ومشروعه الواعد “ستارلينك”، فجزء كبير من عبقريّة هذا الرّجل تكمُن في قدرته على إحداث الصّيحات الإعلاميّة و(التويتريّة) وإبهار النّاس والتسويق لنفسه ولشركاته، واليوم بدأت الشركة فعلاً بإيصال الإنترنت بشكلٍ تجريبيّ ومحدود في الولايات المتّحدة وكندا عبر أقمارها الصّناعيّة التي بلغ عددها 895 حتّى تاريخ كتابة هذا المقال من أصل 12 ألف ثمّ 42 ألف قمر تنوي إطلاقها لتغطّي الكرّة الأرضيّة.
ثمّ ما لبث أن دخل عبقريّ آخر وهو “جيف بيزوس” على الخطّ معلناً عن مشروعه “كايبر” المنافس للإنترنت الفضائيّ واضعاً 10 مليار دولار، زائداً، الرئيس السّابق لشركة ستارلينك “راجيف باديال Rajeev Badyal” على طاولة المنافسة، فعبقريّة هذا الرّجل تكمُن في أنّه يعرف جيّداً كيف يجني المال وما هي المجالات والمشاريع المربحة التي لا تُفوّت، وفي الـ 30 من تموز الماضي أعلن المشروع عن نيّته إطلاق 3,236 قمراً صناعياً للهدف نفسه بعد أن حصل على التراخيص اللازمة.
العديد من الشّركات الأخرى أعلنت عن نيّتها دخول المنافسة أيضاً كشركة “ون ويب OneWeb” البريطانيّة والتي استغلّت رغبة الحكومة البريطانية في الدّخول في هذا السّباق لإنقاذها من الإفلاس وإعادتها إلى مدارها الصّحيح في عالم الإنترنت الفضائي. فيبدو أنّنا سنسمع عن المزيد من الشركات والدول والعباقرة الذين سينخرطون فيه في الفترة القادمة.
ولكن، وسط هذا الزّحام الخانق من الأقمار الصّناعية في المدارات المنخفضة للكرة الأرضيّة والتي يبدو أنّها ستُغيّر وجه السّماء كما نعرفه وتحجب عنّا النّجوم والقمر وتخلق تلوّثاً بصريّاً، إلّا أنّ فكرة الحصول على الإنترنت السّريع جدّاً وبأسعار منافسة ولكل النّاس في كلّ نقطة من على سطح الأرض فكرةٌ مغرية وتدفع المرء للتفاؤل.
فهل لنا نحن العرب ودول منطقتنا عموماً أن نتفائل أيضاً ونستبشر خيراً في هذه التقنية القادمة والمستقبل الفضائي المتطوّر؟ أم أنّ حكوماتنا العتيدة والتي تضع “الأمن القومي والمعلوماتيّ” لمواطنيها على قائمة أولويّاتها ستقف حاجزاً بيننا وبينها؟
اقرأ أيضاً: ملخص مؤتمرآبل (هنالك شيء آخر)
كيف يعمل الإنترنت الفضائي؟
دون الدخول في شيطان التفاصيل، تتلخّص الفكرة بتوزيع شبكة من الأقمار الصّناعيّة في المدارات المنخفضة (550 كيلومتراً عن سطح الأرض، فهي ستكون قريبة جدّاً من الأرض مما يمنح إشارتها أسرع استجابةٍ latency ممكنة) حول الأرض تتصل ببعضها البعض بإشاراتٍ ليزريّة بحيث يتّصل كلّ واحدٍ منها بأربعة أقمار محيطة به، مما يعني أنّ التواصل هنا سيكون بسرعة الضّوء، والتي لا يقاربها إلّا الكابلات الضّوئيّة على الأرض ولكن بأداءٍ أفضل وتكلفةٍ أقل وعوائق شبه معدومة. كلّ قمر منها بحجم مكتب عادي وبوزن 260 كيلوغراماً.
تُرسل هذه الأقمار الإشارات إلى الأرض (وبالاتجاه المعاكس أيضاً) إلى محطّاتٍ أو أجهزة استقبال صغيرةٍ نسبيّاً، والتي وصفها إيلون ماسك بأنّها “بحجم علبة بيتزا صغيرة أو متوسّطة”، تُوضع على محورٍ ويتمّ توجيهها نحو السّماء، وبعد أن تقوم بشراء هذه المستقبلات (بسعر 499 دولاراً) وتدفع اشتراكك المالي للشركة (والتي حدّدتها ستارلينك مؤخّراً بـ 99 دولاراً شهريّاً) ستصبح قادراً على الاتصال بالإنترنت من خلال علب البيتزا هذه بكلّ بساطة. وبحسب خبرتنا ومواكبتنا للتقنية بشكلٍ عام يُمكننا أن نجزم أنّها ستصبح أصغر حجماً وأرخص سعراً بمرور الوقت وربّما ستصل إلى الهواتف الذكيّة أيضاً.
اقرأ أيضاً: قبل شراء جهاز الراوتر الجديد… إليك أهم الميزات التي يجب أن تبحث عنها
من المستهدف؟
قد يكون من الصّعب تصديق أنّه في العام 2020 ما زال 46.4% من سكّان العالم بلا أي اتصالٍ بالإنترنت، لكنّها حقيقةً إحصاءات الاتحاد الدولي للاتصالات، وضخامة هذا السّوق هو ما يُفسّر ضراوة هذا السّباق الدوليّ لتزويد العالم بالإنترنت من الفضاء. والغالبيّة العظمى من هؤلاء غير المتّصلين منتشرين في الدّول الناميّة أو المناطق النّائية البعيدة عن التجمعات السكنيّة في الدول المتقدّمة حيث لا يتوفّر بُنى تحتيّة لازمة لإيصال الإنترنت.
وأول المستفيدين المتوقَّعين من هذه الخدمة هم السكّان الأصليين لكندا “First Nations communities” الذين يسكنون المساحات البعيدة، بالإضافة طبعاً إلى سوق وسائط النقل كالطائرات والسّفن والقطارات ومختلف الآليّات التي ستستفيد من الإنترنت الفضائي بكل تأكيد.
أمّا بالنسبة للدّول النامية (كالـ 138 مليون شخص بلا إنترنت في نيجيريا وحدها)، والـ 48% من سكّان القطب الشّمالي مثلاً فالنتائج ستكون ثوريّة وخطوة كبيرة إلى الأمام من شأنها أن تغلق الفجوة الكبيرة بين الدول النامية وتلك المتقدّمة، ليس فقط فيما يخصّ الاتصال بالإنترنت؛ بل اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً وغيرها.
المصدر: wikipedia.org
اقرأ أيضاً: روبوت بوزن حبة الرمل لنقل الأدوية داخل الجسم يبشّر بسهولة علاج السرطان
كيف ستتعامل الحكومات معها؟
تبدو الصّورة في الفضاء مستقبَلاً جميلة ومتلألأة (ولو صناعيّاً)، ولكن على الأرض قد تكون الأمور مختلفةٌ قليلاً. فليس من عادة حكومات الدّول النامية هذه أن تسمح لشعوبها “البسيطة والبريئة” بأن تكون عرضةً لخطرِ إنترنت حرّ وسريع يصل إليها مباشرةً من الفضاء دون رقابة وفلترة وتحكّم كامل بأدواته وأسعاره وبما سيُسمح بالوصول إليه وما سيتمّ حجبه.
والحقيقة أنّ لدينا تجربة سابقة ليست ببعيدة مع بدء انتشار الأقمار الصّناعيّة الإعلاميّة والقنوات التلفزيونيّة المتعدّدة والكثيرة والتي لا يتناسب 95% منها مع توجّهات الحكومات المحليّة السياسيّة والاجتماعية، فمنعتها وسنّت القوانين بحظرها ومعاقبة كلّ من يَثبُت امتلاكه صحناً لاقطاً، أو من تُسوّل له نفسه أن يقع في “فخ مغريات الأعداء” ومشاهدة قنواتٍ أُخرى غير القنوات المحليّة الحكوميّة “الوطنيّة” التوجّه. ومارست الكثير من التضييق حتّى خرجت الأمور عن سيطرتها لاحقاً. كما قامت أيضاً بحجب مواقع التواصل الاجتماعي جميعها، إمّا لأنّها أداة “الغرب الاستعماري المعادي”، أو لأنها أداة لنشر “الانحلال الأخلاقي” و”الإشاعات المُغرضة”.
وقبل أن نتمادى كثيراً وينتهي بنا المطاف خارج الغلاف الجوّي، علينا القول إنّه لا سلطة قانونيّة لأي بلدٍ على حركة الأقمار الصناعية (أو غيرها) فوق ارتفاع 120 كيلومتراً عن سطح الأرض، إلّا أنّ هذه التقنية ستواجه عوائق قانونية في كلّ بلدٍ ترسل إليه خدماتها وعليها أن تتعامل مع مختلف الحكومات والهيئات الدّوليّة المسؤولة عن تنظيم وترخيص وتشريع عملها وخدماتها في كلّ دولةٍ على حدة. ففي كندا مثلاً عليهم الحصول على موافقة هيئة “تنمية الابتكار والعلوم والاقتصاد ISED” (وقد حصلوا عليها وبدأوا بإيصال خدمتهم بشكلٍ تجريبيّ محدود)، وفي روسيا هي وزارة التنمية الرقمية والاتصالات والإعلام، وهيئة تنظيم وتشريع الاتصالات في الهند وغيرهم.
المتوقّع أن هذه التراخيص والإجراءات في الدول الغربية شكليّة ومضمونة، حيث سيُطلب منهم تحديد التردّدات التي سيستخدمونها وقوّة الإشارة التي ستصل إلى الأرض ونماذج وأدوات الاستقبال المستخدمة لتلقّي الإشارة والتعاون مع الأجهزة الأمنية ودفع الضرائب. والمتوقّع أيضاً أنّ شركات الإنترنت الفضائي ستتعاون بشكلٍ كاملٍ مع هذه الحكومات وستقدّم لها ما تريد، فهي بالنّهاية شركات تجاريّة هدفها الرّبح، أو كما يقول المثل الشّعبي: تريد العنب وليس مواجهة النّاطور.
وباختصار؛ طالما أنّ هذه الحكومات ستسمح لتلك الشّركات بالعمل في بلدانها فستنصاع الشّركات لكافّة القوانين والمتطلّبات والشروط التي تريدها. الأمر الذي يبدو جليّاً من خلال ردّ إيلون ماسك في هذه التغريدات على أسئلة الناس عن موعد بدء وصول الخدمة إلى بلدانهم، ففيما يخصّ أوروبّا أجاب:
“حالما نحصل على موافقات الدّول، وسيتطلّب علينا الحصول على موافقة كلّ دولة على حدة لعدم وجود نظامٍ أوروبيّ موحّد لإعطاء هذه الموافقات، وعلى الأغلب سنبدأ بالحصول على العديد منها (في ظلّ وجود العديد من الخطوات المطلوبة) بحلول شباط وآذار”.
أمّا عن الهند أجاب:
“حالما نحصل على موافقة الجهات المنظّمة، نأمل أن يتحقق ذلك في منتصف العام المقبل”.
ماذا عن الدّول التي سترفضها كليّاً؟
كما أسلفنا سابقاً، لن تتوجه هذه الشّركات نحو مواجهة مع الحكومات بل ستنصاع لها ولمتطلباتها، فهي كشركاتٍ تجاريّة لن يهمّها ما يحدث بين الحكومة وشعبها في الدول المختلفة طالما أنّ عملها مستمرّ وتحصل على أرباحها وتجني المال. لكن المشكلة الرئيسيّة تكمن في أنّ الاتصال سيكون مباشراً بين المستخدمين على الأرض والأقمار الصنّاعية، ولن يمّر عبر أجهزة الدولة لا في مخدّماتٍ ولا محطّات استقبال كبرى ولا مقاسم وكابلات، فكيف ستمارس الحكومات رقابتها؟
الحقيقة لن تستطيع الحكومات ممارسة “واجباتها الأمنية والوطنيّة”، وستتنوّع ردّات فعلها على هذه التقنيّة بحسب أحجام تلك الدّول وقدراتها، فالصّين مثلاً ستتّجه نجو إطلاق شبكتها الخاصة من الأقمار الصّناعيّة لمنافسة ستارلينك وطرح بديل صيني لها. وبحسب موقع spacewatch.global فإنّ الصين أطلقت مشروعين لإرسال 12,992 قمراً صناعيّاً إلى المدار المنخفض للأرض وسجّلتها في “الاتحاد الدولي للاتصالات” بأسماءٍ رمزية هي: GW-A59 و GW-2.
الخيارات الأُخرى ستتعدّد بين محاولة منع الشركة من بثّ وإرسال خدماتها على أراضيها عبر القنوات القانونيّة الدوليّة، فإن لم تستجب قد تذهب تلك الحكومات نحو محاولة التشويش على إشارة الأقمار الصّناعيّة وهذا أيضاً سيتطلّب قدراتٍ تقنيّة كبيرة لا تمتلكها معظم الدّول. أمّا الخيار الأسهل -والتي ستتبعه الحكومات الأقل قدرةً وتقدّماً- فهو أن تدخل الحكومات في مواجهة مع علبِ البيتزا.
من خلال منع تركيبها وملاحقة مقتنيها وتعقّب إشاراتهم لتحديد مواقعهم، وهذا ممكن عبر طائراتٍ أو حتّى دروناتٍ صغيرة بأجهزة تعقّب ومستقبلات تعمل بنفس تردّد إشارة أقمار ستارلينك، فيُمكنها تحديد مصدر الإشارة المرسلة من المستقبل الخاص بالمستخدم (علبة البيتزا) نحو القمر الصّناعي دون الحاجة إلى قراءة محتوى تلك الإشارة بل يكفي تحديد موقعها فقط. وهذا كلّه طبعاً لو فرضنا أنّ المستخدمين وجدوا طريقة لدفع اشتراكاتهم المالية الشهرية لستارلينك دون وجود وكلاء خاصين بالشركة يعملون في تلك الدولة.
الحقيقة المؤسفة أنّ الغالبيّة العظمى من الناس غير المتّصلين بالإنترنت وأكثرهم حاجة لتقنيّات الإنترنت الفضائي هم الذين يعيشون في الدّول التي ستنتهج الخيار الأخير بمنعه وحظره وملاحقة مقتنيه، نحن نتحدّث عن 71.8% من سكّان أفريقيا، و48.4% من سكان الدّول العربيّة، و 51.6% من مجمل سكان قارة آسيا.
فما رأيكم أنتم؟ هل تتوقّعون أن يصل الإنترنت الفضائي إلى بلادنا العربيّة ودول العالم الثّالث عموماً؟ وما هي السيناريوهات المحتملة؟
المصدر: